e

 

شركة الهند الشرقية: الملامح والسمات

 

 

الدكتور مصطفى عبد القادر النجار

بغداد

 

تركت شركة الهند الشرقية الإنجليزية عدداً ”ضخماً“ للغاية من الوثائق والسجلات منظمة تنظيماً ”دقيقاً“ يفوق حد التصور.

وذلك أن الشركة كانت تحرص على تدوين محاضرها بعناية فائقة ولم تترك شاردة أو واردة إلا وقد ثبّتت أحداثها.

وقد شمل التسجيل الاقتراحات والمناقشات والاحتمالات المختلفة التي يتصورها المشرفون الرسميـون على الشركة. وهذا أعطى وثائق شركة الهند الشرقية ميزة مهمة انفردت بها عن محاضر الهيئات الأخرى كمجلس العموم ومجلس اللوردات والمجلس الملكي والاجتماعات الوزارية السرية التي بادرت إلى عقدها الدولة البريطانية في أوقات مختلفة([1]).

ولم تقتصر وثائق شركة الهند الشرقية على القضايا التجارية التي هي الطابع المميز للشركة، بل تعدتها إلى الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما دفع كرانت دوف ((Grant Duf إلى أن يصف سجلات الهند الشرقية بأنها ”أفضل مادة تاريخية في العالم“([2]).


 

وعليه، يمكن القول إن أية دراسة وثائقية لأي وجه من أوجه الحياة في آسيا خلال الوجود البريطاني لا يمكن أن توصف بأنها دراسة متكاملة وأصيلة ما لم تعتمد على معلومات شركة الهند الشرقية.

وعلى الرغم من كل هذا، فإن المطلوب من الباحث أن يعي أن تلك المعلومات قد وضعـت لخدمة أهـداف محددة. فلا يمكنه ـ والحالة هذه ـ من الانسياق معها دون أن يكون حذراً، مضاعفاً الجهد ليتأكد من صحتها وقيمتها العلمية([3]).

وبغية الوقوف على طبيعة شركة الهند الشرقية، لابد من أن نعرض لها عرضاً عاماً يوضح ماهية أعمالها ونشاطاتها والآثار التي تركتها، ولا سيما أنها أدت دوراً عظيماً في الحياة السياسية والاقتصادية للمنطقة خلال حقبة من الزمن تجاوزت القرنين والنصف وأدت في النهاية إلى تأسيس حكومة الهند البريطانية([4]).

إن تأسيس شركة الهند الشرقية جاء نتيجة للتوسع التجاري الذي شهدته إنجلترا في النصف الأخير من القرن السادس عشر بعد انتصار الإنجليز على الأسطول الإسباني في معركة أرمادا عام 1588، حيث اندفع الإنجليز للبحث عن أسواق جديدة لتجارتهم المتنامية. وكانت عمليات الاستغلال الناجحة التي قام بها البرتغاليون في الشرق قد هيأت المزيد من الدوافع والمحفزات للإنجليز لأن يستغلوا فرص توسيع تجارتهم.

ففي عام 1599 تقدم نفر من التجار الإنجليز بطلب إلى الملكة إليزابيث للموافقة على تخويلهم حق ممارسة التجارة في الشرق.

وقد صدر مرسوم ملكي بالموافقة عام 1600 عدَّ بمثابة الحجر الأساسيّ لقيام شركة الهند الشرقية تحت اسم ”شركة حكام وتجار لندن للعمليات التجارية في الهند والأقطار المجاورة“.( The Governor and Company of Merchants of London Trading into the East Indies )، وأعطى الحق للشركة في احتكار التجارة في الشرق مدة 15 عاماً([5]).

وكان الهدف الأساسي الذي يرمي إليه مؤسسو شركة الهند الشرقية هو المساهمة في ميدان تجارة التوابل مع الهند والأقطار المجاورة لها. غير أنهم سرعان ما اكتشفوا أن منتوجات الهند وخاصة الشيت (الخام الهندي) والنترات سلع مربحة أكثر بكثير من التوابل؛ كما أنها ذات نفع أعظم للتجارة الأوروبية.

وعليه، اندفع تجار شركة الهند الشرقية لاستغلال هذه الميزة. وسرعان ما أسسوا أول مركز في ”سورات“ على الساحل الغربي من الهند، ثم توالى تأسيسهم للمراكز في مختلف أرجاء الهند بما فيه القسم الشرقي من الهند الذي كانت تشكل فيه هولندا أكبر منافس للشركة.

ومما تجدر الإشارة إليه أنه تم في هذا الوقت تجديد مرسوم منح الامتياز للشركة الذي كان قد منح لها عام 1600. وقد أصبحت مدّته 15 سنة اعتباراً من عام 1609، على أن تقوم الشركة بكافة العمليات التجارية وأعمال النقل في جزر الهند الشرقية بصورة دائمة([6]).

وقد اتجهت أنظار الشركة في هذا التاريخ لتطوير علاقاتها مع منطقة الخليج العربي، وعملت على فتح طرق تجارية جديدة لها. وكان أول اتصال لها مع المنطقة قد تم عن طريق فارس حيث اندفعت الشركة لمبادلة فائض الصوف الإنجليزي بالحرير الفارسي، وبذلت من أجل ذلك جهوداً مكثفة في إقناع البلاط الفارسي بمنحها امتيازات تجارية وتشجيع التجار الإنجليز على التبادل التجاري مع فارس([7]).

وقد حصلت الشركة عام 1615 على فرمان شاهنشاهي يقضي بمنح الشركة حق المتاجرة مع فارس. وصارت السفن الإنجليزية تؤم الموانئ الفارسية لنقل بضائعها، وتغطية السوق الفارسية بها. وأسست الشركة بها مراكز تجارية في المدن الفارسية الرئيسة كشيراز وأصفهان([8]) وجاسك وغيرها.

وفي عام 1617 تطورت علاقة الشركة بالشاه واستطاعت أن تحصل منه على فرمان بتبادل التمثيل الدبلوماسي بين فارس وإنجلترا. وقد تضمن بالإضافة إلى ذلك منح امتيازات خاصة للتجار الإنجليز ووجوب احترام شعائرهم الدينية وحقهم في الدفاع عن النفس وإعطاءهم امتيازات قانونية. وقد أعطي لممثل الشركة صلاحية تعيين الوكلاء التجاريين في فارس.

وتطورت العلاقات الفارسية ـ الإنجليزية من خلال شركة الهند الشرقية، مما جعل الحكومة الإنجليزية تساند فارس في صد الهجمات البرتغالية المتكررة على السواحل الفارسية([9]). وكان هدف الشركة من تقديم مساعداتها لفارس هو الحصول على امتيازات جديدة لها. وقد نجحت في الحصول على نصف عائدات ميناء جمرون (بندر عباس)؛ كما تم تأسيس مقر تجاري رئيس للشركة في ذلك الميناء وأصبحت من خلاله تدور العمليات التجارية في منطقة الخليج العربي. وقد تعدى نشاط الشركة الساحل الشرقي من الخليج العربي ليشمل الساحل الغربي. وتم أول اتصال للشركة بالبصرة عام 1635 حيث أخذت البواخر تؤم هذا الميناء بصورة مستمرة؛ كما عملت بعد فترة قصيرة على إقامة مركز تجاري لها ليصبح مقراً لنشاط الشركة في المنطقة ابتداء من عام 1643([10]).


 

وقد ازدهر مركز الشركة هذا حيث أصبحت تدار جميع العمليات التجارية من خلاله، ولا سيما في فترة انتقال مركز الشركة من بندر عباس للبصرة بصورة مؤقتة على أثر التهديد الهولندي للشركة. ولكن شركة الهند الشرقية التي احتكرت تجارة الشرق لهذه الفترة جوبهت بمنافسة لم تكن متوقعة من قبل شركة إنجليزية جديدة برئاسة وليم كورتين (William Curteen) الذي أفلح في الحصول على ترخيص من الملك تشارلس الأول للقيام بالعمليات التجارية في الشرق.

وعليه، قامت الشركة الجديدة بتأسيس عدة مراكز تجارية في الهند. وكان لابد من احتدام الصراع بين الشركتين البريطانيتين، مما أرهق كاهلهما. وأخيراً توصلتا إلى دمج أعمالهما عام 1649 ليصبحا شركة موحدة تتقاسمان الأرباح مناصفة([11]).

أما انعكاسات تلك التطورات على منطقة الخليج العربي، فقد هيأت الظروف للشركة الموحدة مناخاً ”إيجابياً“ لتوسيع نشاطها لا على فارس وحدها، بل على معظم السواحل العربية في الخليج العربي.

وعلى الرغم من مقاومة التجار الفرس لشركة الهند الشرقية ومنافسة الهولنديين ثم الفرنسيين لها، فإنها استطاعت أن تحصل على الأرجحية وقوة النفوذ في المنطقة، وذلك بفضل الدعم الذي حصلت عليه الشركة خلال فترة حكم كرومويل في إنجلترا، حيث أصدر عام 1657 مرسوماً أعطاها الحق في التجارة مع الشرق. وبعد كرومويل وعودة الملكية إلى إنجلترا، استمر دعم الحكومة البريطانية للشركة وأصدر الملك شارلس الثاني مرسوماً عام 1661 أعطى الشركة امتيازاً أعظم بكثير مما كانت قد حصلت عليه في الفترات السابقة.

وعندئذ استطاعت الشركة أن تتخذ مواقف جدية مع كل من شركة الهند الهولندية الشرقية (The Dutch East India Company) وشركة الهند الفرنسية الشرقية (The French East India Company) وتعمل على مضايقتهما وتقليص مناطق نفوذهما([12]).

وفي عام 1668 استطاعت شركة الهند الشرقية الإنجليزية الحصول على شبه جزيرة بومباي من الملك شارلس الثاني لقاء إيجار سنوي قدره عشرة جنيهات فقط([13]).

ونظراً لموقع بومباي البحري بصفته مرفأً طبيعيّاً، فقد تحولت هذه المدينة إلى مركز هام للشركة. وأصبحت فيما بعد مقراً لرئاسة بومباي. وصارت أعمال الشركة في الخليج العربي تدار من ذلك المقر الجديد.

وقد تميزت للشركة منذ ذلك الحين ثلاثة مراكز رئيسة هي كلكتا ومدراس وبومباي استطاعت بواسطتها أن تنشر سلطانها تدريجياً على كافة أرجاء جنوب غرب آسيا.

ولكن هذه المكانة التي حصلت عليها الشركة لم تسلم من المناوءة المستمرة من التجار الإنجليز الذين كانوا يتحينون الفرصة للانقضاض على الشركة ومقاسمتها الأرباح الخيالية مع بلدان الشرق.

فقد اتفق نفر من هؤلاء التجار على تأسيس شركة لهم باسم "الشركة الإنجليزية للتجارة في الهند والمناطق المجاورة لها". (The English Company Trading to the East Indies)، حيث استطاع أصحابها الحصول على امتياز تأسيسها عن طريق تقديمهم قرضاً للحكومة البريطانية التي كانت تعاني من صعوبات مالية كبيرة([14]).

وهكذا صدر مرسوم ”ملكي“ بتأسيسها عام 1698. وقد دخلت الشركة الجديدة ميدان المنافسة العنيفة مع الشركة الأولى. واستمرت تلك المنافسة حتى عام 1702، حيث تدخلت الحكومة البريطانية للحد منها بعد أن وجدت أن الشركتين مهددتان بالخطر.

وفي عام 1708 اتحدت الشركتان لتشكلا مؤسسة واحدة باسم ”شركة التجار المتحدة للتجارة الإنجليزية لجزر الهند الشرقية“. (The United Company of Merchants of England to the East Indies) أو تعرف باسم ”شركة الهند الشرقية الشهيرة“ (The Honourable East India Company). ومن ذلك التاريخ أخذ النفوذ التجاري والسياسي للشركة يتعاظم، وأخذت تتوسع في استحداث مراكز جديدة لها([15]).

وقد جاءت الفرصة سانحة للشركة لتزيد من نفوذها في أعقاب سقوط إمبراطورية المغول (Mughal Empire)، وبعد وفاة إمبراطورها أورانكزب (Aurangzeb) عام 1707.

فأصبح العديد من الأمراء الهنود ألعوبة بيد الشركة، وصارت الشركة تتمتع بنفوذ كبير في معظم المقاطعات الهندية. وأخذت تجبي الواردات الضخمة من تلك المقاطعات. وبذلك تبوأت الشركة نتيجة تلك الأرباح الهائلة مكانة لم يسبق أن احتلتها من قبل.

ولم تقتصر أرباح الشركة على الهند فقط، بل تعدتها لتشمل مراكزها التجارية الأخرى. فكان مركزها التجاري في البصرة يدر عليها أرباحاً طائلة.

وكان الأمر ”المهم“ أن قدم وكيل الشركة للوالي العثماني في البصرة جميع الإمكانات والمساعدات للوقوف بوجه الزحف الفارسي على البصرة ومحاصرتها([16]).

هذا، إضافة إلى أن الشركة قد جعلت البصرة محطة لنقل البريد الذي تتسلّمه عن طريق البحر وترسله غرب الفرات حيث ينقل من حلب إلى أوروبا([17]). وقد توسعت التجارة الإنجليزية مع فارس والعراق، وصارت السفن الإنجليزية ترسل إلى موانئ الخليج العربي محملة بالمنتوجات الصوفية والقطنية والسكر والتوابل وغيرها لتغطي أسواق البلاد المحيطة بالخليج العربي.

وأضعفت الشركة منافستها ـ شركة الهند الشرقية الهولندية ـ التي أخذت تتراجع أمام التوسع البريطاني([18]).

ووصفت هزيمة هولندا عام 1759 أمام الإنجليز بالقرب من ”جنسورا“ بأنها نهاية للوجود الهولندي في غرب آسيا.

كذلك استطاعت الشركة القضاء على المنافسة الأخرى لها، وهي المنافسة الفرنسية وذلك بعد اندحار فرنسا أمام إنجلترا عام 1760([19]).

وهكذا أصبح الميزان التجاري في منطقة الخليج العربي لصالح شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وأصبحت المناطق المطلة على الخليج العربي من الأسواق الرئيسة للشركة، وصارت العملات الذهبية تخرج من مناطق الخليج العربي دون قيود بما فيها اللؤلؤ.

وغدت شركة الهند الشرقية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر دون أيّ منافسة أجنبية تذكر في الخليج. وقد حلت البصرة محل "بندر عباس" مركزاً رئيساً للشركة في الخليج العربي اعتباراً من عام 1763. ثم خفضت إلى مقيمية عام 1778 توازي مقيمية بوشهر واستمرت إدارتها من قبل حكومة بومباي مباشرة([20]).

وعلى الرغم من عدم الاستقرار السياسي في البصرة في تلك الفترة نتيجة للصراع العماني ـ الفارسي عليها واحتلال كريم خان لها، فإن المقر التجاري للشركة استمر يخدم الأهداف التي وجد من أجلها؛ ولم يتأثر بالتغيرات الجديدة إلا في نطاق محدود.


 

ولكن حدث في عام 1793 أن قرر المقيم البريطاني نقل المقيمية إلى الكويت حتى عام 1795 لتعود مرة أخرى للبصرة([21]).

وقد حدث بعد هذا التاريخ أن أعيد التشكيل الإداري للمقيمية في البصرة حيث دمجت مع مقيمية بغداد لتكون تحت إدارة ريتش ( Rich) الذي اتخذ من بغداد مقراً له وأخذ يشرف على البصرة بواسطة مساعده.

وإذا التفتنا إلى نشاط الشركة في الهند في هذه الفترة، وجدنا أن الشركة قد خاضت عدة معارك مع أمراء المقاطعات الذين دافعوا عن استقلالهم وحاولوا رفض السيطرة البريطانية عليهم. وقد استطاعت أن تلحق بهم هزائم موجعة، لتفرض هيمنتها على عموم الهند شرقاً وغرباً، وأن تكون القوة الفعالة الأولى.

وبذلك أصبحت تتمتع بقدر عظيم من الامتيازات والمصالح وأرباح تفوق إلى حد كبير مصالح أهل البلاد.

وهكذا وقبل أن ينتهي الربع الأول من القرن التاسع عشر، كانت شركة الهند الشرقية قد أصبحت السيد الفعلي لإمبراطورية شاسعة تمتد عبر الهند المترامية الأطراف حتى الولايات التي لم تكن تحت السيطرة المباشرة للشركة والتي اعترفت بتفوق السيادة البريطانية. وفي معرض تقييمنا لإدارة شركة الهند الشرقية للمناطق التي استحوذت عليها، تؤكد لنا الوثائق ذلك على الوجه الأكمل.

فالشركة هي أصلاً هيئة تجارية طاقتها محدودة وأنظار مساهميها متجهة بالدرجة الأولى إلى أرباح سنداتهم؛ وليس للقضايا الإدارية أهمية تذكر لديهم.

وعليه، فإن العقلية التجارية كانت تسيطر سيطرة تامة على رجالات الشركة. وكان همهم الوحيد استنزاف ثروة الهند والحصول على أكبر ثروة ممكنة.

وقد أخذت ظاهرة الجشع هذه تظهر جلية في السنوات التالية وأصبح الكسب الذاتي والاندفاع وراء الغنى، ومحاولة استغلال الفرص لجمع الثروات الشخصية هي السمة الغالبة لمعظم وكلاء الشركة، وذلك على حساب ربح الشركة العام ومستقبلها السياسي والاقتصادي.

وقد استغل الضباط الإنجليز كذلك مواقعهم الوظيفية، وتزايدت أعمال الظلم والابتزاز من قبلهم، وصار الربح الجشع اللاإنساني الهم الوحيد لهم([22]).

وكان الشعب الهندي والشعوب الأخرى على امتداد الخليج العربي لا يملكون من أمرهم حولاً ولا قوة، وقد استغلوا استغلالاً لا رحمة فيه ولا شفقة.

وانعكس ذلك على ميزانية الشركة التي دفعت ثمناً ”باهظاً“ لتلك الممارسات اللامشروعة والفضائح المالية التي لم تتمكن من معالجتها.

فأخذت أجهزة الشركة تسير نحو الإفلاس شيئاً فشيئاً. وبعد أن استنزف وكلاؤها معظم ميزانيتها، اضطرت ـ والحالة هذه ـ إلى طلب قروض من الحكومة البريطانية زادت على المليون استرليني([23]).

وعندئذ، فكر البرلمان البريطاني في ضرورة فرض سيطرة مباشرة على الشركة. وقد تم في عام 1773 إصدار قانون التنظيم الذي بموجبه أصبح لزاماً على مديري الشركة رفع صور من المخابرات الجارية بينهم وبين السلطات المحلية إلى الحكومة البريطانية بكل ما يتعلق بشؤون تلك المناطق([24]).

كما تم تنصيب الحاكم البريطاني في البنغال حاكماً ”عاماً“ للهند، واعترف رسمياً بأن كلكتا مركز للحكومة العليا، يساعده في ذلك مجلس إدارة يتكون من أربعة أعضاء، ويقومون بالإشراف والسيطرة على علاقات رئاستي مدراس وبومباي.

كما تأسست بموجب القانون الجديد محكمة عليا في كلكتا مؤلفة من رئيس وثلاثة مساعدين للفصل في القضايا المستحدثة. وبموجب قانون عام 1773، أصبح للبرلمان البريطاني شيء من الإشراف على أمور شركة الهند الشرقية وأصبح إشراف الوزارة البريطانية إشرافاً مباشراً على الشركة.

وبالرغم من ذلك، فإن القانون لم يحدد سلطات الحاكم العام والمجلس التابع له؛ مما اضطر البرلمان إلى إصدار قانون آخر لتلافي سلبيات القانون الأول([25]).

كما أن البرلمان البريطاني أقر عام 1784 لائحة قدمها رئيس الوزراء البريطاني وليم بت تعرف باسم ”لائحة بت للهند“ ((Pitt’s India Act . وبموجبها تم تشكيل مجلس المندوبين الذي عرف باسم "مجلس السيطرة". ومهمته ممارسة الإشراف على كافة الشؤون المدنية والعسكرية والمالية لشركة الهند الشرقية. وقد تألف هذا المجلس من ستة أعضاء يعينهم ملك بريطانيا يتألفون من وزير المالية ووزير الخارجية وأربعة أعضاء استشاريين. وبموجبه تم تشكيل لجنة الشؤون السرية، وتتألف من المديرين الثلاثة للشركة.

كما تم تحديد صلاحيات وسلطات الحاكم العام بوضوح أكثر من القانون الأول. وهكذا أصبحت شركة الهند الشرقية خلال السنوات التي أعقبت ذلك خاضعة لسيطرة الحكومة البريطانية.

وعند تجديد امتياز شركة الهند الشرقية عام 1793 فتح الباب على مصراعيه للتجارة البريطانية الحرة. وبذلك فقدت الشركة احتكارها الذي كانت تتمتع به لوقت طويل([26]). غير أن الشركة أفلحت في الإبقاء على احتكارها للتجارة مع الصين. ولكن في عام 1833 ألغي ذلك الاحتكار؛ وبذلك فقدت الشركة مكانتها التجارية المميزة.

وفي ذلك الوقت وضع البرلمان البريطاني أمر شركة الهند الشرقية بوجه عام موضع المناقشة.


 

وكان هناك اتجاه قوي في الرأي يميل إلى صالح تسلم الحكومة البريطانية إدارة شؤون الهند مباشرة. ولكن لم يبت في الأمر بشكل نهائي. وقد صدر في عام 1853 أمر يقضي باستمرار النظام القائم في الهند تاركاً للبرلمان البريطاني أمر البت النهائي مستقبلاً([27]).

واستمر الوضع حتى عام 1857 حيث قامت ثورة سيبري (Sepry) في الهند التي هزت أركان الإمبراطورية البريطانية بأسرها، وكشفت للرأي العام عن فظائع الحكم البريطاني في الهند، مما أثار مشاعر الشعب الإنجليزي نفسه([28]).

وأبانت الثورة عن فشل شركة الهند الشرقية في معالجة مشكلات الهند الدينية والاجتماعية والسياسية. وصار الرأي العام البريطاني يطالب حكومته بوجوب اتخاذ إجراء سريع وحاسم لتحسين أوضاع الهند.

وتمت المصادقة على اللائحة، فانتهت بإصدار قانون عام 1858 المعروف باسم ”قانون التنمية الفضلى للهند“ (An Act for the Better (Development of India. وبذلك ألغي حكم شركة الهند الشرقية للهند نهائياً وانتقلت سلطاتها إلى ملك بريطانيا.

وكان إبراز ما نص عليه قانون سنة 1858 إلغاء مجلس السيطرة ومجلس المديرين في لندن ليعهد بصلاحياتهما إلى مكتب وزير الدولة لشؤون الهند.

وعهد إلى اللورد ستانلي بذلك المنصب. ويساعده في عمله مجلس مؤلف من 15 عضواً يعرف باسم مجلس الهند.

وقد عين اللورد كاننك ((Lord Canning الحاكم العام للهند في حينه أول نائب للملك في الهند بعد استحداث هذا المنصب.

وقد صدر بيان رسمي على أثر ذلك باسم الملكة فكتوريا ملكة بريطانيا حينذاك عرف باسم ”بيان الملكة“ ((Queen’s Proclamation أعلن فيه نقل السلطة من الشركة إلى التاج البريطاني، ووضع الأسس الواجب اتباعها للحكم الجديد في الهند.

وطمأن البيان الشعب الهندي إلى التزام بريطانيا بالمحافظة على تقاليده الاجتماعية والدينية واحترامها؛ كما طمأن الأمراء الهنود بالوفاء بتعهدات الشركة لهم، حيث سيتم تنفيذها من قبل النظام الجديد بكل دقة وأمانة.

ووعد البيان بإدخال الإصلاحات الضرورية للهند والعمل على تقدم البلاد وازدهارها.

وتكشف الوثائق الهندية عن فترة تكاد تكون مظلمة مرت بتاريخ الهند، عندما قدرت أن تكون أمور البلاد بيد شركة الهند الشرقية، تلك الشركة التي كانت بعيدة عن المثل والمبادئ الخيرة. فأرهقت كاهل الشعب الهندي والشعوب الأخرى التي سيطرت عليها. فاستغلتها إلى أبعد حدود الاستغلال، وخلفت وراءها آثاراً مؤلمة من الدمار والتخلف([29]).

وإذا كان ثمة أمر إيجابي خلفته الشركة للهند، فهو لا يتعدى ذلك المعين الزاخر من السجلات والوثائق الذي لا يمكن أن ينضب والذي يحتوي على معلومات ضخمة تشكل مصدراً أساسياً لطلاب البحث العلمي ليدلوا دلاءهم ويستخرجوا أهم وأغرب وأدق التفاصيل لمختلف شؤون الحياة في تلك الفترة([30]).

أما السجلات الأصلية للمقيمية والوكالة في بندر عباس، فقد تم إحراقها عام 1759 من قبل الفرنسيين عند صراعهم التقليدي مع شركة الهند الشرقية البريطانية. وبذلك فقدنا مصدراً هاماً من المصادر الوثائقية الأساسية الهامة التي تخص منطقة الخليج العربي، ولكن بذلت محاولات جادة من قبل المسؤولين الإنجليز لجمع صور من تلك الوثائق تتناول فارس والخليج العربي
كانت موجودة في بعض دوائر لندن لتجميعها في
India Office بلندن غطت إلى حد كبير تلك الفترة من نشاط الشركة([31]).

ووثائق شركة الهند الشرقية عن الخليج العربي هذه يمكن أن يجدها الباحث تحت عنوان I.O.R:G/29، وهي مصنفة في أربع مجموعات. يضم الجزء الأول منها معلومات متفرقة لأوليات قديمة من الوثائق خاصة بفارس، وهي تحت عنوان I.O.R:G/29/1.

أما الجزء الثاني، فيضم اليوميات والمذكرات للفترة من 1708 إلى 1763. والرسائل المسلَّمة من الشركة إلى بندر عباس للفترة من 1704 إلى 1763، وهي تحت عنوان: I.O.R:G/29/2-17. ويحتوي الجزء الثالث على الرسائل المسلَّمة من الشركة إلى البصرة للفترة من 1724 إلى 1811، وهي تحت عنوان: G/29/25 ff 151-199, I.O.R. G:29/18-24.

وأما الجزء الرابع، فيحتوي على مراسلات متفرقة ومذكرات تغطي زيارة وفود الحكومة البريطانية وحكومة الهند من 1798 إلى 1822. هذا، إضافة إلى أخبار الحملة البريطانية للخليج العربي([32]).

 

 

 


 

([1]) Joan C. Lancaster, “The India Office Records ”, in Journal of the British

Association, Vol. IX, N°. 43, p. 130.

([2]) Best Historical Materials in the World.

([3]) لقد نظم تقويماً ممتازاً أصدره في كتاب عام 1918 على درجة كبيرة من الدقة والتنظيم لوثائق الشركة مصنفة حسب السنوات بدءاً بعام 1600 حتى عام 1640، هي بعنوان:

A Supplementary Calendar of Documents in the India Company 100-1640, London, 1928.

([4]) وذلك عام 1858.

([5])K. D. Bhargava, Guide to the Records in the National Archives of India,

Part 1 : Introductory, New Delhi, 1950, pp. 7-18.

([6])Ibid.

([7])I.O.R. G/29. “ The East India Company in Persia ”, 1622-1763.

([8]) وهي العاصمة الجديدة التي نقل إليها الشاه مباني مقر حكمه، فصارت أقرب إلى الخليج العربي

من العاصمة القديمة تبريز.

([9])I.O.R. G/29. “ The East India Company’s First Contact with Persia ”, 1614 -

1622.

([10]) I.O.R. G/29. “ The East India Company in Turkish Arabia ”.

([11])J. G. Lorimer “Oman and Central Arabia ”, Gazetteer of the Persian Gulf,

Vol. 1 : Historical Part 1, p. 35. (Calcuta, 1915).

([12]) Ibid.

([13]) كان الملك تشارلس الثاني قد حصلها من زوجته كاترين عام 1661، وكان شديد الرغبة في التخلص منها لوضعها غير الصحي.

([14]) قدره مليونا جنيه.

([15]) Lorimer, Op. cit.

([16]) راجع تفاصيل ذلك في كتاب: الدكتور عبد الأمير محمد أمين، القوى البحرية في الخليج العربي في القرن الثامن عشر، بغداد، 1966.

([17]) I.O.R.L. G/29 “ Missions of the... ”.

([18]) الدكتور صلاح العقاد، التيارات السياسية في الخليج العربي، القاهرة، 1974، ص ص. 30 ـ 35.

([19]) لاستكمال الصورة حول التنافس الإنجليزي ـ الفرنسي، يمكن الرجوع إلى المصدر نفسه، الفصل الرابع، ص ص. 60 ـ 82.

([20])Y. M. E. Yapp, “The Establishment of the East India Company Residency at

Baghdad, 1708-1806”, Bulletin of the School of Oriental and African

Studies, University of London, Vol. XXX, Part 2, 1967, pp. 324-336.

([21])F.O.R. Embassy and Consular Archives: Turkey: Basra, F.O, 602 Factory

Records Persia and Persian Gulf.

([22]) Bhargava, op. cit.

([23]) Ibid.

([24]) Ibid.

([25]) Ibid.

([26]) William Foster, A Guide to the India Office Records 1600-1658, London,

1966, pp. 1-2 .

([27]) Ibid. p. 2.

([28]) Bhargava, op. cit, p. 17.

([29]) Ibid.

([30]) List of Factory Records of the East India Company, pp. XXIII- London,

1897.

([31]) A. J. Arberry, The Library of the India Office, London, 1938.

([32]) S. C. Hill, Catalogue of the Home, Miscellaneous Series of the India Office Records, London, 1927.